في المشهد المهني المعاصر، أصبحت مقابلات العمل أشبه بمرآة تعكس ثقافة المؤسسة بقدر ما تكشف عن قدرات المرشح. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كل مقابلة عمل تعكس فعليًا معايير العدالة والموضوعية؟
كثير من المرشحين يدخلون غرفة المقابلة محملين بالآمال، لكنهم يخرجون بانطباع أن القرار لم يُبْنَ بالضرورة على الكفاءة أو الخبرة، بل ربما على الانطباع الأول أو حتى التحيّز اللاواعي. هنا، تبرز الحاجة لإعادة النظر في مصداقية المقابلات الوظيفية ودورها في بناء مؤسسات أكثر نزاهة واحترافية.
المقابلة كأداة مزدوجة
من الناحية النظرية، صُمّمت المقابلات لتكون أداة لقياس الكفاءة، القدرة على حل المشكلات، والتأقلم مع بيئة العمل. لكنها عمليًا قد تتحول إلى ساحة اختبار نفسي، حيث يُحكم على المرشحين بناءً على شخصياتهم أو أسلوبهم في الحديث أكثر مما يُحكم على مؤهلاتهم.
هذا الانحراف يضعف الهدف الأساسي من المقابلة: اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب. فكم من كفاءة عالية ضاعت بسبب ضعف في التعبير، وكم من شخصية لبقة حصلت على الوظيفة رغم محدودية المهارات.
أين يختبئ التحيّز؟
تتعدد أشكال التحيّز في المقابلات:
- التحيز للانطباع الأول: حيث يحكم المقابل على المرشح خلال الدقائق الأولى، ويُسقط ذلك على بقية الحوار.
- التحيز الثقافي أو الاجتماعي: حيث يُفضَّل مرشح من خلفية معينة لمجرد التشابه مع الفريق أو المدير.
- الأسئلة غير المهنية: التي تكشف عن قصور في التحضير، أو محاولة اختبار المرشح خارج إطار الوظيفة.
التحيز لا يضر فقط بالمرشح، بل يضر المؤسسة نفسها، لأنها قد تخسر فرصة استقطاب أفضل الكفاءات.
مسؤولية المؤسسة
المؤسسات الرائدة تدرك أن المقابلة ليست اختبارًا للمتقدم فقط، بل هي اختبار لصورة المؤسسة أيضًا. مقابلة عادلة ومهنية تعكس بيئة عمل جادة ومسؤولة، بينما مقابلة مرتجلة تكشف عن ضعف في ثقافة التوظيف، وربما عن بيئة غير جاذبة للكفاءات.
لذلك، بات من الضروري أن تستند المقابلات إلى معايير واضحة مثل:
- وجود لجنة مقابلة متعددة بدلًا من شخص واحد.
- الاعتماد على نماذج تقييم موضوعية تقلل من أثر التحيز.
- تصميم أسئلة مرتبطة مباشرة بالمهام المطلوبة.
مسؤولية المرشح
المصداقية ليست مسؤولية المؤسسة وحدها. المرشح أيضًا يتحمل دورًا مهمًا في:
- التحضير الجيد عبر فهم طبيعة الشركة ودورها.
- طرح أسئلة ذكية تكشف عن ثقافة المؤسسة وواقع بيئة العمل.
- تقييم التجربة: فطريقة المقابلة نفسها مؤشر على جودة المؤسسة.
بذلك، لا يكون المرشح مجرد متلقٍ للحكم، بل شريكًا في تقييم العدالة والمصداقية.
نحو ممارسات توظيف أكثر نزاهة
المشهد العالمي يشهد تحولًا نحو بدائل أكثر موضوعية، مثل الاختبارات العملية، التجارب القصيرة (internships)، أو مراكز التقييم (Assessment Centers) التي تقيس المهارات الفعلية بعيدًا عن الانطباعات العابرة.
هذه الممارسات قد لا تلغي المقابلات تمامًا، لكنها تضعها في سياق أوسع وأكثر عدالة، حيث يُبنى القرار الوظيفي على الأداء الفعلي لا على الانطباع الشخصي.
الخلاصة
إعادة التفكير في مصداقية المقابلات ليست مجرد خطوة إجرائية، بل هي تحول ثقافي يعكس نضج المؤسسات وحرصها على التميز. فالعدالة في التوظيف لا تصنع بيئة أكثر نزاهة فحسب، بل تعزز ولاء الموظفين، وتفتح الباب أمام تنوع حقيقي في الكفاءات، وهو ما يشكّل أساس أي نجاح مهني مستدام.