في عالم مليء بالتحديات، حيث تتنافس المشاريع والمؤسسات والأفراد على موارد محدودة،
يظل السؤال الأهم: كيف نستخدم ما نملك لنحقق أقصى أثر؟
الإجابة ليست في توزيع الموارد على كل شيء بالتساوي، بل في التركيز.
وهنا تبرز أهمية مبدأ عسكري قديم – لكنه ما زال حيًّا – يُسمى: الاقتصاد بالقوة.
هذا المبدأ الذي نشأ في ساحات المعارك، يعيد اليوم تعريف القيادة والإدارة في عصر السرعة والتغيير.
من الحروب إلى القيادة
في التاريخ العسكري، لم تكن الانتصارات من نصيب من وزّعوا قوتهم بعدالة شكلية،
بل كانت من نصيب من عرفوا أين يضعون ثقلهم.
الجيوش الذكية لم تنشر قواتها على طول الجبهات، بل ركّزت جهدها في نقطة واحدة
أحدثت اختراقًا قلب الموازين.
الألمان مثلًا خلال الحرب العالمية الثانية ابتكروا تكتيك حرب البرق.
لم يوزّعوا دباباتهم على كامل الجبهة، بل حشدوا قوتهم في محور واحد،
ليخترقوا خطوط العدو بسرعة وفعالية.
هذا المبدأ – رغم جذوره العسكرية – ليس حكرًا على الحروب.
بل يمكن أن يصبح فلسفة إدارية وقيادية لكل من يسعى إلى إنجاز مؤثر بأقل هدر ممكن.
الترجمة إلى عالم المؤسسات
في الإدارة، مواردنا ليست جيوشًا، لكنها لا تقل أهمية: الوقت، الطاقات البشرية، والميزانية.
وتمامًا كما في الحرب، فإن توزيعها على جميع المهام بشكل متساوٍ قد يبدو منطقيًا،
لكنه يقتل الفاعلية ويُضعف الأثر.
الاقتصاد بالقوة إداريًا يعني:
- أن نركز معظم الموارد على المهام الحاسمة (Critical Path).
- أن نكتفي بالحد الأدنى من الجهد للمهام الثانوية.
- أن نملك الشجاعة لقول "لا" لكل ما لا يخدم الهدف الاستراتيجي.
هذه ليست مجرد نصائح تقنية، بل نهج قيادي يغير طريقة التفكير.
أمثلة حيّة على الاقتصاد بالقوة
الشركات الناشئة:
حين يبدأ المؤسسون رحلتهم، يغريهم العمل على كل الجبهات: تطوير المنتج، التسويق، بناء العلاقات.
لكن الأذكى هو تركيز الجهد على المنتج الأساسي، حتى يثبت نفسه في السوق،
بينما تُدار الأنشطة الأخرى بطرق بسيطة ومرحلية.المؤسسات الكبرى:
بدل إطلاق عشر مبادرات متوازية تستهلك الطاقات،
تختار مبادرة استراتيجية واحدة وتدعمها بكل ثقلها،
لتصنع أثرًا واضحًا ومستدامًا.على المستوى الفردي:
المدير الذي يكتب عشرين مهمة يوميًا غالبًا ينجز القليل منها بشكل سطحي.
أما المدير الذي يحدد ثلاث أولويات فقط وينجزها بتركيز،
فهو يحقق نتائج أعمق وأكثر أثرًا.
البُعد القيادي
القيادة ليست توزيع الجهد بالتساوي لإرضاء الجميع.
القائد الحقيقي هو من يوزّع بحكمة، ويختار معركة بعينها ليضع فيها كل قوته.
العدالة في التوزيع لا تعني الفعالية.
بل على العكس: كثيرًا ما يؤدي توزيع الموارد بالتساوي إلى خسارة الجميع.
إن قول "لا" هنا ليس رفضًا سلبيًا، بل قرارًا استراتيجيًا:
- كل "لا" لمهمة هامشية، هي "نعم" لأولويات جوهرية.
- كل جهد نُسحبه من الأطراف، هو طاقة مركّزة في قلب الهدف.
لماذا نحتاج هذا المبدأ اليوم؟
في بيئة سريعة التغيير، حيث تتعدد المشاريع والفرص،
يصبح خطر التشتت أكبر من أي وقت مضى.
- المؤسسات التي تشتت مواردها على عشرات المشاريع،
تجد نفسها في النهاية بلا إنجازات ملموسة. - الأفراد الذين يركضون خلف كل مهمة،
يكتشفون أنهم استنزفوا طاقتهم دون أثر حقيقي.
أما الذين يفهمون الاقتصاد بالقوة،
فهم الذين يعرفون أن التركيز هو الطريق الأقصر للنتائج الأطول أثرًا.
الخلاصة
الحروب علمتنا أن النصر لا يُصنع بالكثرة، بل بالتركيز.
واليوم، المؤسسات والأفراد يحتاجون إلى هذا الدرس أكثر من أي وقت مضى.
النجاح ليس أن تفعل كل شيء
بل أن تختار ما يستحق أن تفعل فيه كل شيء.
فلا توزّع مواردك بل ركّزها حيث تصنع الأثر.