المناصب بين الجدارة والمحسوبية: قراءة نقدية في عدالة الفرص
في عالم الأعمال، يتبنى كثيرون رواية مبسطة مفادها أن المناصب العليا لا ينالها إلا من يستحقها. هذه الرواية تمنح المؤسسات صورة مثالية عن العدالة والجدارة، لكنها في الغالب بعيدة عن الواقع. فالتجارب اليومية تكشف أن مسارات الترقية ليست دومًا نتاج الكفاءة وحدها، بل تتأثر بعوامل خفية مثل المحسوبيات، التحالفات الداخلية، وحتى التحيزات غير المعلنة.
إن القول بأن كل من وصل إلى موقع قيادي استحقه بالكامل هو تبسيط مخل. تمامًا كما أن افتراض أن من لم يصل إلى المنصب لم يكن جديرًا به يحمل ظلمًا ضمنيًا. الحقيقة أكثر تعقيدًا: بيئة الأعمال لا تعمل بمنطق الجدارة فقط، بل بمنظومة متشابكة من العلاقات والفرص والسياسات.
المحسوبيات كعائق بنيوي
المحسوبيات ليست مجرد ممارسات فردية عابرة، بل هي عائق بنيوي يهدد كفاءة المؤسسات. حين تُمنح المناصب بناءً على الولاء أو القرابة بدلًا من القدرة، تتراجع جودة القرار، ويضعف الابتكار، ويتآكل الشعور بالعدالة داخل الفرق. الأسوأ من ذلك أن هذه الممارسات تنتج ثقافة سلبية تعيد إنتاج نفسها؛ فالموظف الذي صعد بالمحسوبية غالبًا ما يعزز نفس النمط عند صعود آخرين.
في المقابل، المؤسسات التي تفتقر إلى آليات واضحة للحوكمة والشفافية تصبح أكثر عرضة لترسيخ هذه الظاهرة. كلما غابت المعايير الموضوعية، كلما ازدهرت المسارات غير العادلة التي تُقصي الأكفأ وتُبرز الأقل جدارة.
أثر غياب العدالة على الأفراد
عندما يدرك الموظفون أن الجهد والكفاءة لا يكفيان للوصول، يتولد شعور باللامبالاة أو الإحباط. بعضهم قد يختار الانسحاب التدريجي من الطموح المهني، بينما آخرون قد يغادرون المؤسسة بحثًا عن بيئة أكثر إنصافًا. هذه الخسارة لا تُقاس فقط بخروج الكفاءات، بل بتآكل الثقة الداخلية التي تمثل رأس مال غير ملموس لأي منظمة ناجحة.
ومن اللافت أن كثيرًا من أصحاب الأثر الحقيقي في المؤسسات ليسوا في القمة. إنهم موجودون في المواقع الوسطى أو حتى خلف الكواليس، يعملون بصمت، ويُحدثون تغييرًا ملموسًا دون أن يقطفوا ثمار الاعتراف الرسمي. غيابهم عن المناصب لا يعني غياب قيمتهم، بل يكشف خللًا في آليات التقدير والاختيار.
القيادة الرشيدة ككسرٍ للدائرة
كسر حلقة المحسوبيات يتطلب قيادة واعية تدرك أن الشرعية المهنية تُبنى على العدالة. فالقيادة ليست امتيازًا يُمنح، بل مسؤولية تُحمّل لمن يثبت قدرته على إحداث الأثر. وجود أنظمة شفافة للتقييم والترقية، مع معايير واضحة تُطبّق على الجميع دون استثناء، هو ما يضمن أن المناصب تُمنح على أساس الجدارة لا الولاء.
الشفافية هنا ليست مجرد قيمة أخلاقية، بل ضرورة استراتيجية. فالمؤسسات التي تكرّس العدالة في اختياراتها تبني رأس مال ثقة طويل الأمد، وتجذب الكفاءات، وتزيد من قدرتها على المنافسة في سوق مليء بالتحديات.
إعادة تعريف النجاح
النقد الحقيقي لواقع المناصب يقودنا إلى سؤال جوهري: هل نقيس النجاح باللقب الوظيفي فقط، أم بالأثر الفعلي الذي يتركه الفرد في المنظمة والمجتمع؟ إن الاقتصار على اللقب كمعيار وحيد للنجاح يرسخ أوهامًا ويغفل القيمة الحقيقية للعطاء.
بالمقابل، حين تعيد المؤسسات تعريف النجاح باعتباره "إحداث فرق ملموس"، تصبح أكثر قدرة على الاستفادة من كل مستوياتها التنظيمية. هنا، لا يعود المنصب غاية بحد ذاته، بل وسيلة لتمكين الأثر وتحقيق الاستدامة.
خلاصة نقدية
ليس كل من صعد إلى منصب وصل إليه بالجدارة، وليس كل من بقي خارجه غير مؤهل. الاعتراف بهذه الحقيقة ليس تشاؤمًا، بل وعي نقدي ضروري. إنه يفتح الباب أمام إصلاح عميق لثقافة المؤسسات، بحيث تنتقل من منطق "الموقع" إلى منطق "الأثر".
في النهاية، المؤسسات التي تنجح ليست تلك التي تُحسن توزيع المناصب فحسب، بل تلك التي تُنصف كفاءاتها وتضمن أن تكون القيادة انعكاسًا للجدارة الحقيقية لا للمحسوبيات. وهذه هي النقطة التي تميّز بين منظمة تدور في حلقة مغلقة، وأخرى تصنع أثرًا مستدامًا.