بقلم جديس الحسين
أتذكر بوضوح ذلك المركز التجاري الذي افتُتح في وسط الرياض. لم يكن مجرد مبنى، بل كان فصلاً في كتاب حياتنا، ومسرحاً لأحلامنا في المرحلة المتوسطة. كان وجود متجر للموسيقى في القبو بمثابة نافذة على عالم آخر، متنفس إبداعي لا يمحوه الزمن. لكن كما يحدث غالباً في مدننا، غابت شمس المكان بسرعة، وكأن العمر الافتراضي للمباني لا يتجاوز بضع سنوات. انتقل البريق شمالاً، تاركاً خلفه فراغاً، وساحة مهجورة على طريق مدرستي.
كنت أتأمل هذا الفراغ بتساؤلات لا تنتهي: لماذا تفقد الأماكن بريقها محلياً بهذه السرعة؟ لماذا تهجر الأماكن والذكريات كما نهجر الماضي؟ ولماذا نركض باتجاه الشمال وكأنه المستقبل الوحيد، بينما نرى في كل اتجاه آخر ماضياً يجب أن نبتعد عنه؟ ما هو عيب ماضينا؟ لم أتوقع يوماً أن هواجس إعادة تدوير الأشياء، وإعادة القيمة للأماكن، ستنتقل من المباني إلى الإنسان.
إقصاء لا تمكين: عندما يتحول الهدف
مع انطلاق رؤية وطننا الطموحة، كان تمكين الشباب والاستفادة من طاقتهم هدفاً نبيلاً، وضرورة حتمية لمواكبة التطور. ولكن في خضم هذا التركيز، يبدو أن شيئاً ما انحرف عن مساره. تحوّل الهدف من "تمكين فئة" إلى "إقصاء فئات أخرى". أصبحت الإعلانات الوظيفية تتفاخر باستهداف فئة عمرية محددة، وكأن الخبرة والولاء ودروس الحياة باتت بلا قيمة.
أصبحت المؤسسات المحلية تُغير استراتيجياتها لتقتصر فرصها على فئة واحدة، وكأن الإنسان يفقد صلاحيته بعد سن معينة.
أصبحت أتساءل: من هو الشاب اليوم؟ أحدهم قال لي ساخراً: "الشاب هو من لا يزال يحصل على فرص في القطاعات الحكومية الجديدة وشبه الحكومية." إنه تعريف مؤلم، يعكس حقيقة أن قيمة الإنسان باتت مرتبطة بعمره، لا بإنتاجيته.
اقتصاد الفضة: استثمار في الحكمة لا إحسان
هذه النظرة السلبية تجاه التقدم في العمر هي غلطة استراتيجية كبرى. في الوقت الذي تنخفض فيه معدلات الولادة، وتزداد الحاجة إلى الكفاءات، نرى أنفسنا نهدر ثروة لا تُعوض.
هنا يبرز مفهوم "اقتصاد الفضة"؛ ليس باعتباره إنفاقاً استهلاكياً لكبار السن فحسب، بل باعتباره استثماراً في قوتهم الإنتاجية وخبراتهم.
اقتصاد الفضة يعني:
- قوة عمل لا تُهدر: إنسان بعد الخمسين ما زال قادراً على الإنتاج.
- حكمة وخبرة: قدرات لا تُقاس بالسنوات فقط بل بالدروس المتراكمة.
- دور تكاملي: يوازن اندفاع الشباب مع خبرة السنين.
أمثلة عالمية:
- في الاتحاد الأوروبي، قُدر حجم اقتصاد الفضة عام 2018 بحوالي 3.7 تريليون يورو (27% من الناتج المحلي).
- في اليابان، 25% من رواد الأعمال الجدد فوق الستين.
- في ألمانيا، سياسة "العمل متعدد الأجيال" جعلت الفرق أكثر استقراراً وابتكاراً.
إعادة تدوير الإنسان المحلي: نموذج بديل
الإنسان ليس سلعة منتهية الصلاحية. بل يمكن إعادة تدويره:
- كقائد، مدرب، أو ناقل معرفة.
- كرائد أعمال يضيف قيمة جديدة.
- كمستشار يعيد صياغة الرؤية للمؤسسات الناشئة.
أتأمل أن يُستبدل سيناريو استعانة شبابنا بشركات استشارية أجنبية، بتمكين الأجيال السعودية من الجنسين للاستفادة من خبراتهم المتراكمة.
ختام
أتمنى أن لا ترى الرياض الماضي بما فيه الإنسان كعبء، بل كجذور قوية لمستقبل أكثر ثراءً. مدينة تحتضن جميع أبنائها، وتؤمن أن لكل فرد منهم فصلاً في كتابها لا يكتمل إلا بوجوده.
فهل سنعيد تدوير إنساننا المحلي، أم سنترك تاريخنا وراء ظهورنا ونمضي شمالاً بلا وجهة؟