التطوع المهني والحوكمة: ضرورة بيئة عادلة وآمنة
في عالم تتسارع فيه التحولات المؤسسية، لم يعد التطوّع المهني مجرد نشاط جانبي يضيف قيمة رمزية، بل أصبح ركيزة أساسية في بناء المجتمعات الاحترافية، وإثراء المعرفة، وتطوير الممارسات. ومع هذا الصعود، تبرز حاجة ملحّة إلى منظومة حوكمة واضحة تحمي المتطوّع أولًا، وتضمن للمؤسسات المهنية ممارسة عادلة وشفافة ومسؤولة.
التطوع فعل انتماء
التطوّع بطبيعته فعل انتماء. هو رغبة صادقة في العطاء، ومحاولة لتوسيع أثر الفرد خارج إطار مهامه اليومية. لكن هذا الدافع النبيل قد ينكسر عندما تتحوّل البيئة المؤسسية إلى مساحة ضبابية تفتقد للوضوح، أو عندما تصبح القرارات خاضعة للاجتهاد الشخصي بدل النظام المكتوب. هنا تظهر أهمية الحوكمة: ليس كقيود، بل كضمانات.
الحوكمة شرط للبيئة الآمنة
الحوكمة في العمل التطوعي المهني ليست رفاهية تنظيمية، بل هي شرط لخلق بيئة آمنة يمكن للمتطوّع فيها أن يقدّم جهده دون خوف من التهميش، أو سوء الفهم، أو تضارب المصالح، أو غياب قنوات التصعيد الواضحة. فالمؤسسات المهنية مهما بلغ نضجها قد تقع في أخطاء بشرية أو إدارية؛ لكن الفرق بين مؤسسة تتعلّم وأخرى تتعثّر يكمن في قدرتها على تحويل هذه الأخطاء إلى فرص إصلاح.
مسؤولية المؤسسة المهنية
إن مسؤولية المؤسسة المهنية تتجاوز تنظيم المهام وتوزيع الأدوار. فهي مطالبة بوضع لائحة داخلية تحكم السلوك المؤسسي، وتحدّد بوضوح:
- من يملك القرار؟
- ما حدود الصلاحيات؟
- كيف تُدار الخلافات؟
- ما آليات المراجعة؟
- وكيف تُعالج الشكاوى دون تأخير أو انحياز؟
هذه الأسئلة ليست تفاصيل، بل أساس الثقة المتبادلة.
المتطوّع شريك لا تابع
في المقابل، المتطوّع شريك لا تابع. شريك يملك حقّ الاطلاع على الأنظمة، وحقّ الاعتراض المهذّب، وحقّ أن يجد مؤسسة تستمع قبل أن تبرّر، وتصحّح قبل أن تُبرئ نفسها. وجود آلية مساءلة واضحة لا ينقص من قيمة المؤسسة بل يرفعها، لأنها تعلن بذلك أنّها تضع العدالة فوق المجاملة، والإنصاف فوق العلاقات.
التوسع الرقمي وزيادة الحاجة للحوكمة
المنظمات المهنية اليوم تتحمّل مسؤولية مضاعفة. فبيئة التطوّع لم تعد محصورة في القاعات والاجتماعات، بل امتدّت إلى:
- فضاءات رقمية
- لجان تخصصية
- مشاريع دولية
- مجتمعات معرفية واسعة
وكلّما اتسع نطاق العمل، أصبحت الحاجة للحوكمة أكثر إلحاحًا، لأن العشوائية مهما كانت صغيرة تُحدث أثرًا كبيرًا في منظومة يقودها المتطوّعون.
المؤسسة الناجحة هي من تستقبل النقد
إن المؤسسة التي تريد الاستمرار ليست تلك التي تخشى النقد، بل تلك التي تستقبله كمنبّه صحي. مؤسسة تنظر للمتطوّع كصوت يعكس نبض المجتمع المهني، لا كعبء يحتاج إلى إدارة. فالمتطوّعون هم من يصنعون القيمة، يرفعون جودة الأنشطة، ويعكسون ثقافة المؤسسة أمام محيطها. وإن خسرَت المؤسسة ثقة المتطوّع، ستخسر بالضرورة جزءًا من رسالتها.
الحوكمة وعد بالعدالة
في نهاية المطاف، الحوكمة ليست لوائح جامدة ولا إجراءات معقدة، بل هي وعد:
- أن يكون العمل المهني قائمًا على العدالة
- أن تُدار العلاقات باحترام
- أن يُعطى المتطوّع مساحة آمنة ليُسهم دون خوف، ويُعترض دون حرج، ويُقدّر دون انتظار
وحين تلتزم المؤسسات بهذا الوعد، فإنها لا تحمي المتطوّع فقط… بل تحمي نفسها ومستقبلها وسمعتها.
أثر الحوكمة في السلوك المؤسسي
إن أثر الحوكمة لا يظهر في الوثائق بقدر ما يظهر في السلوك المؤسسي. وفي عالم تتزايد فيه التحديات، تحتاج المنظمات المهنية إلى شجاعة أكبر في مراجعة ذاتها، والاستثمار في أنظمتها، واحترام المتطوّعين الذين يبنون بأيديهم قيمة تلك المنظمات. فالمسؤولية تبدأ من المؤسسة قبل المتطوّع.



