في كل حيٍّ جديد نُبهر ببداية المشروع: أرصفة أنيقة، إنارة حديثة، وشوارع تُنذر بانطلاقة عمرانية متقنة. لكن بعد أشهر قليلة من التسليم، تبدأ الحفريات بالظهور كعلامات على خلل أعمق من مجرد سوء تنفيذ. تُعاد الشوارع التي لم تُستهلك بعد إلى حالتها الأولى، تُكسر الأرصفة، وتُحفر الأرض مجددًا لمدّ أنابيب الصرف أو كابلات الإنترنت أو شبكات الهاتف.
يتكرر المشهد في مدن عدة، رغم ما يُنفق من مليارات، وكأننا ندور في دائرة لا تنتهي من الإصلاح والترقيع.
المشكلة هنا ليست في سوء النية أو ضعف الكفاءة فقط، بل في غياب منظومة تكامل حقيقية تجمع بين الجهات المنفذة والخدمية قبل بدء المشروع. في العديد من الحالات، يُعتمد المخطط النهائي دون أن تكون الجهات الخدمية – كالكهرباء والمياه والاتصالات – جزءًا من التصميم منذ البداية. فيتحول المشروع إلى منتج «ناقص التنسيق»؛ جميل في مظهره، لكنه هشّ في أساسه.
بين التصميم والتنفيذ.. فجوة لا يملؤها أحد
عندما تُطرح المناقصات الإنشائية، يركّز المقاول على الجدول الزمني والتكلفة، بينما تُغفل الجهات المالكة أهمية إشراك جميع الأطراف منذ مرحلة التصميم الأولي. النتيجة؟ مشاريع تُسلَّم في وقتها، لكنها لا تعيش عمرها التشغيلي المتوقع.
كل جهة خدمية تعمل لاحقًا على حدة لتلبية احتياجاتها التشغيلية، فيتم الحفر مجددًا، وتُعاد الأعمال التي دُفعت تكلفتها مسبقًا.
هذه الفجوة لا تضر الميزانيات فحسب، بل تُفقد المجتمع الثقة في جدوى التخطيط ذاته.
المسؤولية المشتركة تبدأ من الحوكمة
في الأنظمة المتقدمة، يُعَدّ «تكامل البنية التحتية» أحد مؤشرات جودة الحوكمة الحضرية. تُنشأ لجان دائمة للتنسيق بين البلديات، وشركات المرافق، والمطورين، بحيث لا يُعتمد أي مشروع دون توقيع كل جهة على خطتها التنفيذية المترابطة.
أما في حالتنا، فالمسؤولية ما تزال موزعة بقدر من الغموض:
البلدية تعتمد، المقاول ينفذ، والمرافق تُنفذ لاحقًا وفق أولوياتها.
هذا التشظي الإداري ينتج عنه خلل في سلسلة القيمة للمشاريع العامة والخاصة، حيث تُهدر الجودة قبل أن تُبنى.
الحل يبدأ من التخطيط لا من الصيانة
لكي تتحسن جودة المشاريع الإنشائية في السعودية، لا بد من الانتقال من نموذج «ردّ الفعل» إلى نموذج «التخطيط الاستباقي».
هذا يتطلب:
- منصات تكامل رقمية تربط بين الجهات الخدمية والبلديات والمطورين في مرحلة التصميم.
- مؤشرات جودة وطنية تُقاس بناءً على أداء ما بعد التسليم، لا فقط على نسب الإنجاز.
- مساءلة مؤسسية واضحة تحدد من يتحمل كلفة إعادة التنفيذ الناتجة عن ضعف التنسيق.
حين تتكامل هذه العناصر، تتحول المشاريع من عبء متكرر إلى أصل وطني مستدام. فالجودة ليست في المواد التي تُستخدم، بل في الفكر الذي يسبق التنفيذ، وفي المنظومة التي تضمن ألا تُعاد الحفرات في المكان نفسه بعد عام.
في النهاية، المساءلة لا تعني البحث عن المخطئ بقدر ما تعني بناء نظام يمنع الخطأ من التكرار.
فحين تتوحد الرؤية بين التخطيط والخدمة والتنفيذ، يصبح المشهد العمراني انعكاسًا لجودة الحوكمة قبل جودة الخرسانة.