في كل بيئة مهنية، يلتقي الطموح البشري برغبة طبيعية في التميز والتقدير. وبينما يمكن أن تكون المنافسة محركًا للإبداع والإنجاز، تظهر الغيرة كوجه مزدوج: أحدهما إيجابي يوقظ الطموح، وآخر سلبي يقوّض الثقة ويهدم الروح الجماعية. فهم هذا التوازن هو الخطوة الأولى لبناء مؤسسات أكثر وعيًا، وفِرق عمل أكثر نضجًا.
الغيرة المهنية: طاقة إيجابية نحو التميز
الغيرة بحد ذاتها ليست شعورًا سلبيًا دائمًا. حين يرى الفرد نجاح زميله، قد يستيقظ بداخله شعور بالغيرة، لكن إذا وُجّه هذا الشعور بشكل صحيح، يصبح دافعًا للتعلم والتطوير. هذه هي الغيرة المهنية، التي تتحول إلى منافسة صحية تشجع على:
- السعي لتطوير المهارات باستمرار.
- رفع معايير الأداء الفردي والجماعي.
- الاستفادة من خبرات الآخرين بدلًا من مقاومتها.
- خلق بيئة عمل تُقدّر الإنجاز وتحتفي بالإبداع.
على سبيل المثال، موظف يلاحظ ترقية زميله فيقرر أن يستثمر في تطوير نفسه، أو أن يتقدم لمشاريع أكثر تحديًا. هنا تصبح الغيرة طاقة تدفعه للأمام، وتحوّل الإنجاز الفردي لزميله إلى مصدر إلهام شخصي.
الغيرة غير المهنية: الوجه الخفي الذي يعيق النجاح
في المقابل، قد ينزلق هذا الشعور إلى مسار سلبي عندما يتحول إلى مقاومة لنجاح الآخرين أو محاولة لإقصائهم. هذه هي الغيرة غير المهنية، التي تظهر في سلوكيات مثل:
- المماطلة أو تعطيل العمل المشترك مع الآخرين.
- الانتقاد المستمر دون طرح حلول.
- التقليل من إنجازات الزملاء وربطها بالحظ.
- إخفاء المعلومات أو الفرص لمنع الآخرين من التقدم.
هذه السلوكيات تُضعف الثقة داخل الفرق، تقتل روح التعاون، وتترك المؤسسة أسيرة لصراعات جانبية تستهلك طاقاتها بدلًا من أن تستثمرها في النمو.
الأثر المزدوج على الأفراد والمؤسسات
- على الفرد: الغيرة المهنية قد تكون وقودًا للتطور والنضج، بينما الغيرة غير المهنية تحوّل الطموح إلى قلق دائم يعيق النمو.
- على المؤسسة: الغيرة المهنية تخلق منافسة إيجابية تدفع الفرق للأمام، أما الغيرة غير المهنية فتقود إلى بيئة سامة، تفقد معها المؤسسة الكفاءات، وتنحسر قدرتها على الابتكار.
كيف نوجّه الغيرة لتصبح مهنية؟
تحويل الغيرة إلى قوة إيجابية يتطلب وعيًا فرديًا وإدارة واعية من المؤسسة، عبر:
- تعزيز ثقافة الاعتراف: تكريم الإنجازات بشكل عادل وشفاف يقلل من مشاعر التهميش.
- توزيع الفرص بعدالة: إتاحة مسارات مهنية متكافئة تشجع على تطوير الذات بدل الصراع غير الصحي.
- تحويل الأهداف إلى جماعية: بناء مشاريع يُقاس نجاحها بالفريق لا بالفرد فقط.
- تمكين الأفراد بالذكاء العاطفي: لتعلّم كيفية إدارة المشاعر وتحويلها إلى محفزات.
- قيادة بالقدوة: حين يحتفي القائد بنجاح الآخرين، تصبح ثقافة العمل أكثر نضجًا وعدلاً.
من الغيرة إلى الإلهام
الغيرة في جوهرها مرآة تكشف علاقة الفرد بنفسه وبطموحاته. فإذا تعامل معها بوعي، صارت وقودًا للنمو. وإذا استسلم لها بشكل سلبي، تحولت إلى عائق يهدد مساره ومسار المؤسسة معه.
المؤسسات الناضجة ليست تلك التي تخلو من الغيرة، بل تلك التي تحسن توجيهها، فتحوّلها من صراع خفي إلى منافسة صحية، ومن مشاعر مدمرة إلى مصدر إلهام. حينها يصبح نجاح الفرد نجاحًا للجميع، ويتحوّل الطموح الشخصي إلى أثر جماعي يتجاوز حدود المكاتب إلى المجتمع بأسره.